الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وأما قول ملاحدة المتفلسفة وغيرهم: أن اتصافه بهذه الصفات: إن أوجب له كمالاً فقد استكمل بغيره، فيكون ناقصًا بذاته، وإن أوجب له نقصًا لم يجز اتصافه بها، فيقال: قد تقدم أن الكمال المعين هو الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه. وحينئذ، فقول القائل: يكون ناقصًا بذاته، إن أراد به أن يكون بدون هذه الصفات ناقصًا فهذا حق، لكن من هذا فررنا، وقدرنا أنه لابد من صفات الكمال وإلا كان ناقصًا. وإن أراد به أنه إنما صار كاملاً بالصفات التي اتصف بها، فلا يكون كاملا بذاته المجردة عن هذه الصفات. فيقال: أولاً: هذا إنما يتوجه أنه لو أمكن وجود ذات مجردة عن هذه الصفات، أو أمكن وجود ذات كاملة مجردة عن هذه الصفات، فإذا كان أحد هذين ممتنعًا امتنع كماله بدون هذه الصفات، فكيف إذا كان كلاهما ممتنعًا؟ فإن وجود ذات كاملة بدون هذه الصفات ممتنع، فإنا نعلم بالضرورة أن [الذات] التي لا تكون حية عليمة قديرة سميعة بصيرة متكلمة، ليست أكمل من الذات التي تكون حية عليمة سميعة بصيرة متكلمة. وإذا كان صريح العقل يقضي بأن الذات المسلوبة هذه الصفات ليست مثل الذات المتصفة، فضلاً عن أن تكون أكمل منها، ويقضي بأن الذات المتصفة بها أكمل، علم بالضرورة امتناع كمال الذات بدون هذه الصفات، فإن قيل بعد ذلك: لا تكون ذاته ناقصة مسلوبة الكمال إلا بهذه الصفات، قيل: الكمال بدون هذه الصفات ممتنع، وعدم الممتنع ليس نقصًا، وإنما النقص عدم ما يمكن. وأيضًا، فإذا ثبت أنه يمكن اتصافه بالكمال، وما اتصف به وجب له، وامتنع تجرد ذاته عن هذه الصفات، فكان تقدير ذاته منفكة عن هذه الصفات تقديرًا ممتنعًا. وإذا قدر للذات تقدير ممتنع، وقيل: إنها ناقصة بدونه، كان ذلك مما يدل على امتناع ذلك التقدير، لا على امتناع نقيضه، كما لو قيل: إذا مات كان ناقصًا، فهذا يقتضي وجوب كونه حيًا، كذلك إذا كان تقدير ذاته خالية عن هذه الصفات يوجب أن تكون ناقصة، كان ذلك مما يستلزم أن يوصف بهذه الصفات. وأيضًا، فقول القائل: اكتمل بغيره ممنوع، فإنا لا نطلق على صفاته أنها غيره، ولا أنها ليست غيره، على ما عليه أئمة السلف؛ كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، وهو اختيار حُذَّاق المثبتة، كابن كُلاَّب وغيره. ومنهم من يقول: أنا لا أطلق عليها أنها ليست هي هو، ولا أطلق عليها أنها ليست غيره، ولا أجمع بين السلبين قأقول: لا هي هو ولا هي غيره، وهو اختيار طائفة من المثبتة كالأشعري، وأظن أن قول أبي الحسن التميمى هو هذا، أو ما يشبه هذا. ومنهم من يجوز إطلاق هذا السلب وهذا السلب في إطلاقهما جميعًا، كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى. ومنشأ هذا أن لفظ [الغير] يراد به المغاير للشىء، ويراد به ما ليس هو إياه، وكان في إطلاق الألفاظ المجملة إيهام لمعانٍ فاسدة. ونحن نجيب بجواب علمي فنقول: قول القائل: يتكمل بغيره. أيريد به بشىء منفصل عنه أم يريد بصفة لوازم ذاته؟ أما الأول فممتنع. وأما الثاني فهو حق، ولوازم ذاته لا يمكن وجود ذاته بدونها، كما لا يمكن وجودها بدونه، وهذا كمال بنفسه لا بشىء مباين لنفسه. وقد نص الأئمة ـ كأحمد بن حنبـل وغيره ـ وأئمة المثبتة ـ كأبي محمد بن كُلاَّب وغيره ـ على أن القائل إذا قال: الحمد لله، أو قال: دعوت الله وعبدته، أو قال: بالله، فاسم الله متناول لذاته المتصفة بصفاته، وليست صفاته زائدة على مسمى أسمائه الحسنى. وإذا قيل: هل صفاته زائدة على الذات أم لا؟ قيل: إن أريد بالذات المجردة التي يقر بها نفاة الصفات، فالصفات زائدة عليها،وإن أريد بالذات الذات الموجودة في الخارج، فتلك لا تكون موجودة إلا بصفاتها اللازمة. والصفات ليست زائدة على الذات المتصفة بالصفات، وإن كانت زائدة على الذات التي يقدر تجردها عن الصفات.
وأما قول القائل: لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرًا إليها وهي مفتقرة إليه، فيكون الرب مفتقرًا إلى غيره، فهو من جنس السؤال الأول. فيقال: أولاً: قول القائل: [لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرًا إليها] يقتضي إمكان جوهر تقوم به الصفات، وإمكان ذات لا تقوم بها الصفات، فلو كان أحدهما ممتنعا لبطل هذا الكلام، فكيف إذا كان كلاهما ممتنعًا؟ فإن تقدير ذات مجردة عن جميع الصفات، إنما يمكن في الذهن لا في الخارج. كتقدير وجود مطلق لا يتعين في الخارج. ولفظ [ذات]تأنيث ذو، وذلك لا يستعمل إلا فيما كان مضافًا إلى غيره، فهم يقولون: فلان ذو علم وقدرة، ونفس ذات علم وقدرة. وحيث جاء في القرآن أو لغة العرب لفظ [ذو]ولفظ [ذات]لم يجئ إلا مقرونًا بالإضافة كقوله: وقول خُبَيْبَ ـ رضي الله عنه: وذلك في ذات الإله... ** ونحو ذلك. لكن لما صار النظار يتكلمون في هذا الباب، قالوا: إنه يقال:إنها ذات علم وقدرة، ثم إنهم قطعوا هذا اللفظ عن الإضافة وعرفوه، فقالو: [الذات]. وهي لفظ مُولَّد ليس من لفظ العرب العرباء؛ ولهذا أنكره طائفة من أهل العلم، كأبي الفتح بن برهان، وابن الدهان وغيرهما، وقالوا: ليست هذه اللفظة عربية ورد عليهم آخرون، كالقاضي وابن عقيل وغيرهما. وفصل الخطاب: أنها ليست من العربية العرباء، بل من المولدة، كلفظ الموجود ولفظ الماهية والكيفية ونحو ذلك، فهذا اللفظ يقتضي وجود صفات تضاف الذات إليها، فيقال: ذات علم وذات قدرة وذات كلام والمعنى كذلك، فإنه لا يمكن وجود شىء قائم بنفسه في الخارج لا يتصف بصفة ثبوتية أصلاً، بل فرض هذا في الخارج كفرض عَرَض يقوم بنفسه لا بغيره. ففرض عرض قائم بنفسه لا صفة له، كفرض صفة لا تقوم بغيرها، وكلاهما ممتنع، فما هو قائم بنفسه فلا بد له من صفة، وما كان صفة فلابد له من قائم بنفسه متصف به. ولهذا سلم المنازعون أنهم لا يعلمون قائمًا بنفسه لا صفة له، سواء سموه جوهرًا أو جسمًا أو غير ذلك، ويقولون: وجود جوهر معرى عن جميع الأعراض ممتنع، فمن قدر إمكان موجود قائم بنفسه لا صفة له، فقد قدر ما لا يعلم وجوده في الخارج ولا يعلم إمكانه في الخارج، فكيف إذا علم أنه ممتنع في الخارج عن الذهن. وكلام نفاة الصفات جميعه يقتضي أن ثبوته ممتنع، وإنما يمكن فرضه في العقل، فالعقل يقدره في نفسه، كما يقدر ممتنعات، لا يعقل وجودها في الوجود ولا إمكانها في الوجود. وأيضًا فالرب ـ تعالى ـ إذا كان اتصافه بصفات الكمال ممكنًا ـ وما أمكن له وجب ـ امتنع أن يكون مسلوبًا صفات الكمال، ففرض ذاته بدون صفاته اللازمة الواجبة له فرض ممتنع. وحينئذ فإذا كان فرض عدم هذا ممتنعا عمومًا و خصوصًا، فقول القائل: يكون مفتقرًا إليها، وتكون مفتقرة إليه، إنما يعقل مثل هذا في شيئين. يمكن وجود كل واحد منهما دون الآخر، فإذا امتنع هذا بطل هذا التقدير. ثم يقال له: ما تعنى بالافتقار؟ أتعني: أن الذات تكون فاعلة للصفات مبدعة لها أو بالعكس؟ أم تعني التلازم وهو ألا يكون أحدهما إلا بالآخر؟ فإن عنيت افتقار المفعول إلى الفاعل فهذا باطل، فإن الرب ليس بفاعل لصفاته اللازمة، بل لا يلزمه شىء معين من أفعاله ومفعولاته؛ فكيف تجعل صفاته مفعولة له، وصفاته لازمة لذاته ليست من مفعولاته؟ وإن عنيت التلازم فهو حق. وهذا كما يقال: لا يكون موجودًا، إلا أن يكون قديمًا واجبًا بنفسه ولا يكون عالمًا قادرًا إلا أن يكون حيًا، فإذا كانت صفاته ملازمة لذاته، كان ذلك أبلغ في الكمال من جواز التفريق بينهما، فإنه لو جاز وجوده بدون صفات الكمال، لم يكن الكمال واجبًا له، بل ممكنًا له، وحينئذ فكان يفتقر في ثبوتها له إلى غيره، وذلك نقص ممتنع عليه، كما تقدم بيانه، فعلم أن التلازم بين الذات وصفات الكمال هو كمال الكمال.
وأما القائل: إنها أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب، والمركب ممكن محتاج، وذلك عين النقص، فللمثبتة للصفات في إطلاق لفظ [العَرَض]على صفاته ثلاث طرق: منهم: من يمنع أن تكون أعراضًا، و يقول: بل هي صفات وليست أعراضًا، كما يقول ذلك الأشعري، وكثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره. ومنهم: من يطلق عليها لفظ الأعراض كهشام وابن كَرَّام وغيرهما. ومنهم: من يمتنع من الإثبات والنفي، كما قالوا في لفظ الغير، وكما امتنعوا عن مثل ذلك في لفظ الجسم ونحوه، فإن قول القائل: العلم عرض بدعة، وقوله:ليس بعرض بدعة، كما أن قوله: الرب جسم بدعة، وقوله:ليس بجسم بدعة. وكذلك أيضًا لفظ [الجسم]، يراد به في اللغة: البدن والجسد، كما ذكر ذلك الأصمعي وأبو زيد، وغيرهما من أهل اللغة. وأما أهل الكلام، فمنهم من يريد به المركب، ويطلقه على الجوهر الفرد بشرط التركيب، أو على الجوهرين، أو على أربعة جواهر، أو ستة، أو ثمانية، أو ستة عشر، أو اثنين وثلاثين، أو المركب من المادة والصورة. ومنهم من يقول: هو الموجود أو القائم بنفسه. وعامة هؤلاء وهؤلاء يجعلون المشار إليه متساويًا في العموم والخصوص، فلما كان اللفظ قد صار يفهم منه معانٍ، بعضها حق وبعضها باطل ـ صار مجملاً. وحينئذ فالجواب العلمي أن يقال: أتعني بقولك: إنها أعراض: أنها قائمة بالذات أو صفة للذات ونحو ذلك من المعاني الصحيحة؟ أم تعني بها أنها آفات ونقائص؟ أم تعني بها أنها تعرض وتزول ولا تبقى زمانين؟ فإن عنيت الأول فهو صحيح، وإن عنيت الثاني فهو ممنوع، وإن عنيت الثالث فهذا مبني على قول من يقول: العرض لا يبقى زمانين. فمن قال ذلك وقال: هي باقية، قال: لا أسميها أعراضًا، ومن قال: بل العرض يبقى زمانين، لم يكن هذا مانعًا من تسميتها أعراضًا. وقولك: العَرَض لا يقوم إلا بجسم. فيقال لك: هو حي، عليم قدير عندك. وهذه الأسماء لا يسمى بها إلا جسم، كما أن هذه الصفات التي جعلتها أعراضًا لا يوصف بها إلا جسم، فما كان جوابك عن ثبوت الأسماء، كان جوابًا لأهل الإثبات عن إثبات الصفات. ويقال له: ما تعنى بقولك: هذه الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم؟ أتعني بالجسم المركب الذي كان مفترقًا فاجتمع؟ أو ما ركبه مركب فجمع أجزاءه؟ أو ما أمكن تفريقه وتبعيضه وانفصال بعضه عن بعض ونحو ذلك؟ أم تعني به ما هو مركب من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة؟ أو تعني به ما يمكن الإشارة إليه؟ أو ما كان قائمًا بنفسه؟ أو ما هو موجود؟ فإن عنيت الأول، لم نسلم أن هذه الصفات التي سميتها أعراضًا لا تقوم إلا بجسم بهذا التفسير، وإن عنيت به الثاني، لم نسلم امتناع التلازم، فإن الرب ـ تعالى ـ موجود قائم بنفسه، مشار إليه عندنا، فلا نسلم انتفاء التلازم على هذا التقدير. وقول القائل: المركب ممكن، إن أراد بالمركب: المعاني المتقدمة؛ مثل كونه كان مفترقًا فاجتمع، أو ركبه مركب أو يقبل الانفصال، فلا نسلم المقدمة الأولى التلازمية، وإن عنى به ما يشار إليه أو ما يكون قائمًا بنفسه موصوفًا بالصفات، فلا نسلم انتفاء الثانية، فالقول بالأعراض مركب من مقدمتين؛ تلازمية، واستثنائية بألفاظ مجملة، فإذا استفصل عن المراد حصل المنع والإبطال لأحدهما أو لكليهما، وإذا بطلت إحدى المقدمتين على كل تقدير، بطلت الحجة.
وأما قول القائل: لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث، والحادث إن أوجب له كمالا فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به. فيقال أولا: هذا معارض بنظيره من الحوادث التي يفعلها، فإن كليهما حادث بقدرته ومشيئته، وإنما يقترنان في المحل. وهذا التقسيم وارد على الجهتين. وإن قيل في الفرق: المفعول لا يتصف به، بخلاف الفعل القائم به، قيل في الجواب: بل هم يصفونه بالصفات الفعلية، ويقسمون الصفات إلى نفسية وفعلية، فيصفونه بكونه خالقًا ورازقًا بعد أن لم يكن كذلك، وهذا التقسيم وارد عليهم. وقد أورده عليهم الفلاسفة في مسألة حدوث العالم، فزعموا أن صفات الأفعال ليست صفة كمال ولا نقص. فيقال لهم: كما قالوا لهؤلاء في الأفعال التي تقوم به، إنها ليست كمالاً و لا نقصًا. فإن قيل: لابد أن يتصف إما بنقص أو بكمال. قيل: لابد أن يتصف من الصفات الفعلية إما بنقص وإما بكمال، فإن جاز ادعاء خلو أحدهما عن القسمين، أمكن الدعوى في الآخر مثله، و إلا فالجواب مشترك. وأما المتفلسفة فيقال لهم: القديم لا تحله الحوادث، ولا يزال محلاً للحوادث عندكم، فليس القدم مانعًا من ذلك عندكم، بل عندكم هذا هو الكمال الممكن الذي لا يمكن غيره، وإنما نفوه عن واجب الوجود؛ لظنهم عدم اتصافه به. وقد تقدم التنبيه على إبطال قولهم في ذلك، لاسيما وما قامت به الحوادث المتعاقبة يمتنع وجوده عن علة تامة، أزلية موجبة لمعلولها؛ فإن العلة التامة الموجبة يمتنع أن يتأخر عنها معلولها، أو شىء من معلولها، ومتى تأخر عنها شىء من معلولها كانت علة له بالقوة لا بالفعل، واحتاج مصيرها علة بالفعل إلى سبب آخر؛ فإن كان المخرج لها من القوة إلى الفعل هو نفسه، صار فيه ما هو بالقوة وهو المخرج له إلى الفعل، وذلك يستلزم أن يكون قابلاً أو فاعلاً، وهم يمنعون ذلك لامتناع الصفات التي يسمونها التركيب. وإن كان المخرج له غيره كان ذلك ممتنعًا بالضرورة والاتفاق؛ لأن ذلك ينافى وجوب الوجود؛ ولأنه يتضمن الدور المعي والتسلسل في المؤثرات، وإن كان هو الذي صار فاعلا للمعين بعد أن لم يكن، امتنع أن يكون علة تامة أزلية، فقدم شىء من العالم يستلزم كونه علة تامة في الأزل، وذلك يستلزم ألاَّ يحدث عنه شىء بواسطة وبغير واسطة، وهذا مخالف للمشهود. ويقال ثانيا ـ في إبطال قول من جعل حدوث الحوادث ممتنعًا: هذا مبني علي تجدد هذه الأمور بتجدد الإضافات، والأحوال والأعدام؛ فإن الناس متفقون على تجدد هذه الأمور. وفرق الآمدي بينهما من جهة اللفظ، فقال: هذه حوادث وهذه متجددات، والفروق اللفظية لا تؤثر في الحقائق العلمية. فيقال: تجدد هذه المتجددات إن أوجب له كمالا فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن أوجب له نقصًا لم يجز وصفه به. ويقال ثالثاً: الكمال الذي يجب اتصافه به هو الممكن الوجود، وأما الممتنع فليس من الكمال الذي يتصف به موجود، والحوادث المتعلقة بقدرته ومشيئته يمتنع وجودها جميعًا في الأزل فلا يكون انتفاؤها في الأزل نقصًا؛ لأن انتفاء الممتنع ليس بنقص. ويقال رابعًا: إذا قدر ذات تفعل شيئًا بعد شىء، وهي قادرة على الفعل بنفسها، وذات لا يمكنها أن تفعل بنفسها شيئًا، بل هي كالجماد الذي لا يمكنه أن يتحرك، كانت الأولى أكمل من الثانية. فعدم هذه الأفعال نقص بالضرورة، وأما وجودها بحسب الإمكان فهو الكمال. ويقال خامسًا: لا نُسَلِّم أن عدم هذه مطلقًا نقص ولا كمال، ولا وجودها مطلقًا نقص ولا كمال، بل وجودها في الوقت الذي اقتضته مشيئته وقدرته وحكمته هو الكمال، ووجودها بدون ذلك نقص، وعدمها مع اقتضاء الحكمة عدمها كمال، ووجودها حيث اقتضت الحكمة وجودها هو الكمال. وإذا كان الشىء الواحد يكون وجوده تارة كمالاً وتارة نقصًا، وكذلك عدمه، بطل التقسيم المطلق، وهذا كما أن الشىء يكون رحمة بالخلق إذا احتاجوا إليه كالمطر، ويكون عذابًا إذا ضرهم، فيكون إنزاله لحاجتهم رحمة وإحسانًا، والمحسن الرحيم متصف بالكمال، ولا يكون عدم إنزاله ـ حيث يضرهم، ـ نقصًا، بل هو أيضًا رحمة وإحسان، فهو محسن بالوجود حين كان رحمة، وبالعدم حين كان العدم رحمة.
وأما نفي النافي للصفات الخبرية المعينة، فلاستلزامها التركيب المستلزم للحاجة والافتقار، فقد تقدم جواب نظيره، فإنه إن أريد بالتركيب ما هو المفهوم منه في اللغة أو في العرف العام، أو عرف بعض الناس ـ وهو ما ركّبه غيره ـ أو كان متفرقًا فاجتمع، أو ما جمع الجواهر الفردة أو المادة والصورة، أو ما أمكن مفارقة بعضه لبعض، فلا نسلم المقدمة الأولى، ولا نسلم أن إثبات الوجه واليد مستلزم للتركيب بهذا الاعتبار. وإن أريد به التلازم، على معنى امتياز شىء عن شىء في نفسه، وأن هذا ليس هذا، فهذا لازم لهم في الصفات المعنوية المعلومة بالعقل، كالعلم والقدرة، والسمع والبصر، فإن الواحدة من هذه الصفات ليست هي الأخرى، بل كل صفة ممتازة بنفسها عن الأخرى، وإن كانتا متلازمتين يوصف بهما موصوف واحد. ونحن نعقل هذا في صفات المخلوقين، كأبعاض الشمس وأعراضها. وأيضًا، فإن أريد أنه لابد من وجود ما، بالحاجة والافتقار إلى مباين له، فهو ممنوع. وإن أريد أنه لابد من وجود ما، هو داخل في مسمى اسمه، وأنه يمتنع وجود الواجب بدون تلك الأمور الداخلة في مسمى اسمه، فمعلوم أنه لابد له من نفسه، فلابد له مما يدخل في مسماها بطريق الأولى والأحرى. وإذا قيل: هو مفتقر إلى نفسه لم يكن معناه أن نفسه تفعل نفسه، فكذلك ما هو داخل فيها، ولكن العبارة موهمة مجملة، فإذا فسر المعنى زال المحذور. ويقال أيضًا: نحن لا نطلق على هذا اللفظ الغير؛ فلا يلزمه أن يكون محتاجًا إلى الغير، فهذا من جهة الإطلاق اللفظي؛ وأما من جهة الدليل العلمي فالدليل دل على وجود موجود بنفسه، لا فاعل ولا علة فاعلة، وإنه مستغن بنفسه عن كل ما يباينه. وأما الوجود الذي لا يكون له صفة، ولا يدخل في مسمى اسمه معنى من المعاني الثبوتية، فهذا إذا ادعى المدعي أنه المعنى بوجوب الوجود وبالغنيّ. قيل له: لكن هذا المعنى ليس هو مدلول الأدلة، ولكن أنت قدرت أن هذا مسمى الاسم، وجعل اللفظ دليلاً على هذا المعنى لا ينفعك، إن لم يثبت أن المعنى حق في نفسه، ولا دليل لك على ذلك، بل الدليل يدل على نقيضه. فهؤلاء عمدوا إلى لفظ الغنىّ، والقديم، والواجب بنفسه، فصاروا يحملونها على معانٍ تستلزم معاني تناقض ثبوت الصفات، وتوسعوا في التعبير، ثم ظنوا أن هذا الذي فعلوه هو موجب الأدلة العقلية وغيرها. وهذا غلط منهم. فموجب الأدلة العقلية لا يتلقى من مجرد التعبير، وموجب الأدلة السمعية يتلقى من عرف المتكلم بالخطاب، لا من الوضع المحدث، فليس لأحد أن يقول: إن الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعان،ثم يريد أن يفسر مراد الله بتلك المعاني، هذا من فعل أهل الإلحاد المفترين. فإن هؤلاء عمدوا إلى معانٍ ظنوها ثابتة؛ فجعلوها هي معنى الواحد والواجب، والغني والقديم، ونفي المثل، ثم عمدوا إلى ما جاء في القرآن والسنة من تسمية الله ـ تعالى ـ بأنه أحد وواحد، عليٌّ، ونحو ذلك من نفي المثل والكفؤ عنه. فقالوا: هذا يدل على المعاني التي سميناها بهذه الأسماء، وهذا من أعظم الافتراء على الله. وكذلك المتفلسفة، عمدوا إلى لفظ الخالق، والفاعل، والصانع، والمحدث، ونحو ذلك، فوضعوها لمعنى ابتدعوه، وقسموا الحدوث إلى نوعين: ذاتي وزماني، وأرادوا بالذاتي كون المربوب مقارنًا للرب أزلاً وأبدًا؛ فإن اللفظ على هذا المعنى لا يعرف في لغة أحد من الأمم، ولو جعلوا هذا اصطلاحًا لهم لم ننازعهم فيه؛ لكن قصدوا بذلك التلبيس على الناس، وأن يقولوا: نحن نقول بحدوث العالم وأن الله خالق له، وفاعل له، وصانع له، ونحو ذلك من المعاني التي يعلم بالاضطرار أنها تقتضي تأخر المفعول، لا يطلق على ما كان قديمًا بقدم الرب مقارنًا له أزلاً وأبدًا. وكذلك فعل من فعل بلفظ [المتكلم]، وغير ذلك من الأسماء، ولو فعل هذا بكلام سيبويه وبقراط، لفسد ما ذكروه من النحو والطب، ولو فعل هذا بكلام آحاد العلماء، كمالك والشافعي، وأحمد وأبى حنيفة، لفسد العلم بذلك ولكان ملبوسًا عليهم، فكيف إذا فعل هذا بكلام رب العالمين؟ وهذه طريقة الملاحدة الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته، ومن شاركهم في بعض ذلك، مثل قول من يقول: الواحد الذي لا ينقسم، ومعنى قوله: لا ينقسم، أي: لا يتميز منه شىء عن شىء، ويقول: لا تقوم به صفة. ثم زعموا أن الأحد والواحد في القرآن يراد به هذا. ومعلوم أن كل ما في القرآن من اسم الواحد والأحد، كقوله: تعالى: وكذلك إذا قالوا: الموصوفات تتماثل، والأجسام تتماثل، والجواهر تتماثل، وأرادوا أن يستدلوا بقوله تعالى: فنفي مماثلة هؤلاء مع اتفاقهم في الإنسانية، فكيف يقال: إن لغة العرب توجب أن كل ما يشار إليه مثل كل ما يشار إليه. وقال تعالى: وقد قال الشاعر: ليس كمثل الفتى زهير ** وقال: ما إن كمثلهم في الناس من بشر ** ولم يقصد هذا أن ينفي وجود جسم من الأجسام. وكذلك لفظ [التشابه] ليس هو التماثل في اللغة، قال تعالى:
وقول القائل: المناسبة: لفظ مجمل؛ فإنه قد يراد بها التولد والقرابة، فيقال: هذا نسيب فلان ويناسبه، إذا كان بينهم قرابة مستندة إلى الولادة والآدمية، والله ـ سبحانه وتعالى ـ منزه عن ذلك، ويراد بها المماثلة فيقال: هذا يناسب هذا، أي: يماثله، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. ويراد بها الموافقة في معنى من المعاني، وضدها المخالفة. والمناسبة بهذا الاعتبار ثابتة، فإن أولياء الله ـ تعالى ـ يوافقونه فيما يأمر به فيفعلونه، وفيما يحبه فيحبونه، وفيما نهى عنه فيتركونه، وفيما يعطيه فيصيبونه، والله وِتْرٌ يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عليم يحب العلم، نظيف يحب النظافة، محسن يحب المحسنين، مقسط يحب المقسطين، إلى غير ذلك من المعاني؛ بل هو ـ سبحانه ـ يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا وجدها بعد اليأس، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته، كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا أريد بالمناسبة هذا وأمثاله، فهذه المناسبة حق، وهي من صفات الكمال كما تقدمت الإشارة إليه؛ فإن من يحب صفات الكمال أكمل ممن لا فرق عنده بين صفات النقص والكمال، أو لا يحب صفات الكمال. وإذا قدر موجودان: أحدهما: يحب العلم والصدق والعدل والإحسان ونحو ذلك، والآخر: لا فرق عنده بين هذه الأمور، وبين الجهل والكذب والظلم ونحو ذلك، لا يحب هذا ولا يبغض هذا، كان الذي يحب تلك الأمور أكمل من هذا. فدل على أن من جرده عن صفات الكمال، والوجود بألا يكون له علم كالجماد، فالذي يعلم أكمل منه، ومعلوم أن الذي يحب المحمود ويبغض المذموم، أكمل ممن يحبهما أو يبغضهما. وأصل هذه المسألة: الفرق بين محبة الله ورضاه، وغضبه وسخطه، وبين إرادته، كما هو مذهب السلف والفقهاء وأكثر المثبتين للقدر من أهل السنة وغيرهم، وصار طائفة من القدرية والمثبتين للقدر إلى أنه لا فرق بينهما. ثم قالت القدرية: هو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، ولا يريد ذلك فيكون مالم يشأ، ويشاء ما لم يكن. وقالت المثبتة: ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وإذن قد أراد الكفر والفسوق والعصيان، ولم يرده دينًا، أو أراده من الكافر ولم يرده من المؤمن، فهو لذلك يحب الكفر والفسوق والعصيان، ولا يحبه دينًا، ويحبه من الكافر ولا يحبه من المؤمن. وكلا القولين خطأ، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها؛ فإنهم متفقون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يكون شىء إلا بمشيئته، ومجمعون على أنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وأن الكفار يبيتون ما لا يرضى من القول، والذين نفوا محبته بنوها على هذا الأصل الفاسد.
وأما قول القائل: الرحمة: ضعف وخَوَر في الطبيعة، وتألم على المرحوم، فهذا باطل. أما أولا: فلأن الضعف والخَوَر مذموم من الآدميين، والرحمة ممدوحة؛ وقد قال تعالى: ومحال أن يقول: لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي، ولكن لما كانت الرحمة تقارن في حق كثير من الناس الضعف والخور ـ كما في رحمة النساء ونحو ذلك ـ ظن الغالط أنها كذلك مطلقًا. وأيضاً، فلو قدر أنها في حق المخلوقين مستلزمة لذلك، لم يجب أنتكون في حق الله ـ تعالى ـ مستلزمة لذلك، كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا، يستلزم من النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود، والقيام بالنفس فينا، يستلزم احتياجًا إلى خالق يجعلنا موجودين، والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا، فنحن وصفاتنا وأفعالنا مقرونون بالحاجة إلى الغير، والحاجة لنا أمر ذاتي لا يمكن أن نخلو عنه، وهو ـ سبحانه ـ الغني له أمر ذاتي، لا يمكن أن يخلو عنه، فهو بنفسه حي قيوم واجب الوجود،ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء. فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا، وما اتصفنا به من الكمال من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال، ولا يقدر ولا يعلم؛ لكون ذلك ملازمًا للحاجة فينا. فكذلك الرحمة وغيرها، إذا قدر أنها في حقنا ملازمة للحاجة والضعف، لم يجب أن تكون في حق الله ملازمة لذلك. وأيضًا، فنحن نعلم بالاضطرار: أنا إذا فرضنا موجودين؛ أحدهما: يرحم غيره، فيجلب له المنفعة ويدفع عنه المضرة، والآخر: قد استوى عنده هذا وهذا، وليس عنده ما يقتضى جلب منفعة، ولا دفع مضرة، كان الأول أكمل.
وأما قول القائل: الغضب: غليان دم القلب لطلب الانتقام، فليس بصحيح في حقنا. بل الغضب قد يكون لدفع المنافي قبل وجوده، فلا يكون هناك انتقام أصلاً. وأيضًا، فغليان دم القلب يقارنه الغضب، ليس أن مجرد الغضب هو غليان دم القلب، كما أن الحياء يقارن حُمْرَة الوجه، والوَجَل [أي: الخوف. انظر : القاموس مادة: وجل] يقارن صفرة الوجه؛ لا أنه هو. وهذا لأن النفس إذا قام بها دفع المؤذي فإن استشعرت القدرة فاض الدم إلى خارج فكان منه الغضب، وإن استشعرت العجز عاد الدم إلى داخل، فاصفر الوجه كما يصيب الحزين. وأيضًا، فلو قدر أن هذا هو حقيقة غضبنا، لم يلزم أن يكون غضب الله ـ تعالى ـ مثل غضبنا، كما أن حقيقة ذات الله ليست مثل ذاتنا، فليس هو مماثلاً لنا: لا لذاتنا، ولا لأرواحنا، وصفاته كذاته. ونحن نعلم بالاضطرار: أنا إذا قدرنا موجودين؛ أحدهما: عنده قوة يدفع بها الفساد، والآخر: لا فرق عنده بين الصلاح والفساد، كان الذي عنده تلك القوة أكمل. ولهذا يذم من لا غيرة له على الفواحش كالدَّيُّوث، ويذم من لا حمية له يدفع بها الظلم عن المظلومين، ويمدح الذي له غيرة يدفع بها الفواحش، وحَمِيَّة يدفع بها الظلم، ويعلم أن هذا أكمل من ذلك. ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الرب بالأكملية في ذلك، فقال في الحديث الصحيح: (لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطَن)، وقال: (أتعجبون من غيرة سعد؟ أنا أغير منه، والله أغير مني). وقول القائل: إن هذه انفعالات نفسانية. فيقال: كل ما سوى الله مخلوق منفعل، ونحن وذواتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها، لا يوجب أن يكون الله منفعلاً لها عاجزًا عن دفعها، وكان كل ما يجري في الوجود؛ فإنه بمشيئته وقدرته لا يكون إلا ما يشاء، ولا يشاء إلا ما يكون، له الملك وله الحمد.
وقول القائل: إن الضحك خفة روح، ليس بصحيح، وإن كان ذلك قد يقارنه. ثم قول القائل: [خفة الروح]: إن أراد به وصفًا مذمومًا فهذا يكون لما لا ينبغي أن يضحك منه، وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال، وإذا قدر حيان؛ أحدهما:يضْحَك مما يُضْحَك منه،والآخر: لا يضحك قط، كان الأول أكمل من الثاني. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينظر إليكم الرب قَنِطِين، فيظل يضحك، يعلم أن فَرَجَكُم قريب)، فقال له أبو رَزِين العُقَيْلِي: يا رسول الله، أو يضحك الرب؟! قال: (نعم) قال: لن نعدم من رب يضحك خيرًا. فجعل الأعرابي العاقل ـ بصحة فطرته ـ ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه؛ فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العَبُوس الذي لا يضحك فط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب: إنه وقد روى: أن الملائكة قالت لآدم: (حَيَّاك الله وبَيَّاك) أي: أضحكك. والإنسان حيوان ناطق ضاحك، وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال، فكما أن النطق صفة كمال، فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزمًا لشىء من النقص فالله منزه عن ذلك، وذلك الأكثر مختص لا عام، فليس حقيقة الضحك مطلقًا مقرونة بالنقص، كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص، ووجودنا مقرون بالنقص، ولا يلزم أن يكون الرب موجدًا وألا تكون له ذات. ومن هنا ضلت القرامطة الغلاة كصاحب الإقليد وأمثاله، فأرادوا أن ينفوا عنه كل ما يعلمه القلب، وينطق به اللسان، من نفي وإثبات، فقالوا: لا نقول: موجود ولا لا موجود، ولا موصوف ولا لا موصوف؛ لما في ذلك ـ على زعمهم ـ من التشبيه، وهذا يستلزم أن يكون ممتنعًا، وهو مقتضي التشبيه بالممتنع، والتشبيه الممتنع على الله أن يشارك المخلوقات في شىء من خصائصها، وأن يكون مماثلاً لها في شىء من صفاته، كالحياة والعلم والقدرة، فإنه وإن وصف بها فلا تماثل صفة الخالق صفة المخلوق، كالحدوث والموت، والفناء والإمكان.
وأما قوله: التعجب: استعظام للمتعجب منه، فيقال نعم. وقد يكون مقرونًا بجهل بسبب التعجب، وقد يكون لما خرج عن نظائره، والله ـ تعالى ـ بكل شىء عليم، فلا يجوز عليه ألا يعلم سبب ما تعجب منه، بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيمًا له. والله ـ تعالى ـ يعظم ما هو عظيم؛ إما لعظمة سببه أو لعظمته. فإنه وصف بعض الخير بأنه عظيم، ووصف بعض الشر بأنه عظيم، فقال تعالى: ولهذا قال تعالى: وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي آثر هو وامرأته ضيفهما:[لقد عجب الله]،وفي لفظ في الصحيح: (لقد ضحِكَ الله الليلة من صنْعِكُمَا البارحة)، وقال: (إن الرب ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. يقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا، وقال: (عجب ربك من شَابّ ليست له صَبْوَة) [قوله: ـ ليست له صبوة ـ أي: ميل إلى الهوى] ،وقال: (عجب ربك من راعي غنم على رأس شَظِيَّة، يؤذن ويقيم، فيقول الله: انظروا إلى عبدي) [قوله: ـ شظية ـ أي : قطعة مرتفعة في رأس الجبل انظر] أو كما قال. ونحو ذلك.
وأما قول القائل: لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصًا. وقول الآخر: لو قدر وعَذَّب لكان ظلمًا، والظلم نقص. فيقال: أما المقالة الأولى فظاهرة، فإنه إذا قدر أنه يكون في ملكه ما لا يريده وما لا يقدر عليه، وما لا يخلقه ولا يحدثه، لكان نقصًا من وجوه: أحدها: أن انفراد شىء من الأشياء عنه بالأحداث نقص لو قدر أنه في غير ملكه فكيف في ملكه؟ فإنا نعلم أنا إذا فرضنا اثنين: أحدهما: يحتاج إليه كل شىء، ولا يحتاج إلى شىء، والآخر: يحتاج إليه بعض الأشياء، ويستغنى عنه بعضها، كان الأول أكمل، فنفس خروج شىء عن قدرته وخلقه نقص، وهذه دلائل الوحدانية؛ فإن الاشتراك نقص بكل من المشتركين، وليس الكمال المطلق إلا في الوحدانية. فإنا نعلم أن من قدر بنفسه كان أكمل ممن يحتاج إلى معين، ومن فعل الجميع بنفسه فهو أكمل ممن له مشارك ومعاون على فعل البعض، ومن افتقر إليه كل شىء، فهو أكمل ممن استغنى عنه بعض الأشياء. ومنها: أن يقال: كونه خالقًا لكل شىء وقادرًا على كل شىء، أكمل من كونه خالقًا للبعض وقادرًا على البعض. والقدرية لا يجعلونه خالقًا لكل شىء، ولا قادرًا على كل شىء. والمتفلسفة ـ القائلون: بأنه علة غائبة ـ شر منهم، فإنهم لا يجعلونه خالقًا لشىء من حوادث العالم ـ لا لحركات الأفـلاك ولا غيرها مـن المتحركات ـ ولا خالقًا لما يحدث بسبب ذلك، ولا قادرًا على شىء من ذلك، ولا عالمًا بتفاصيل ذلك، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: ومنها: أنا إذا قدرنا مالكين؛ أحدهما: يريد شيئًا فلا يكون ويكون مالا يريد، والآخر: لا يريد شيئًا إلا كان ولا يكون إلا ما يريد، علمنا بالضرورة أن هذا أكمل. وفي الجملة، قول المثبتة للقدرة يتضمن: أنه خالق كل شىء، وربه ومليكه، وأنه على كل شىء قدير، وأنه ما شاء كان، فيقتضي كمال خلقه وقدرته ومشيئته، ونفاة القدر يسلبونه هذه الكمالات. وأما قوله: إن التعذيب على المقدر ظلم منه. فهذه دعوى مجردة، ليس معهم فيها إلا قياس الرب على أنفسهم، ولا يقول عاقل: إن كل ما كان نقصًا من أي موجود كان، لزم أن يكون نقصًا من الله، بل ولا يقبح هذا من الإنسان مطلقًا، بل إذا كان له مصلحة في تعذيب بعض الحيوان، وأن يفعل به ما فيه تعذيب له حسن ذلك منه؛ كالذي يصنع القَزَّ، فإنه هو الذي يسعى في أن دود القز ينسجه، ثم يسعى في أن يلقي في الشمس ليحصل له المقصود من القز، وهو هنا له سعي في حركة الدود التي كانت سبب تعذيبه. وكذلك الذي يسعى في أن يتوالد له ماشية، وتبيض له دجاج، ثم يذبح ذلك لينتفع به، فقد تسبب في وجود ذلك الحيوان تسببًا أفضى إلى عذابه؛ لمصلحة له في ذلك. ففي الجملة، الإنسان يحسن منه إيلام الحيوان لمصلحة راجحة في ذلك، فليس جنس هذا مذمومًا ولا قبيحًا ولا ظلمًا، وإن كان من ذلك ما هو ظلم. وحينئذ، فالظلم من الله إما أن يقال: هو ممتنع لذاته؛ لأن الظلم تصرف المتصرف في غير ملكه، والله له كل شىء، أو الظلم مخالفة الأمر الذي تجب طاعته، والله ـ تعالى ـ يمتنع منه التصرف في ملك غيره، أو مخالفة أمر من يجب عليه طاعته، فإذا كان الظلم ليس إلا هذا أو هذا، امتنع الظلم منه. وإما أن يقال: هو ممكن لكنه ـ سبحانه ـ لا يفعله لغناه وعلمه بقبحه، ولإخباره أنه لا يفعله، ولكمال نفسه يمتنع وقوع الظلم منه، إذ كان العدل والرحمة من لوازم ذاته، فيمتنع اتصافه بنقيض صفات الكمال التي هي من لوازمه على هذا القول، فالذي يفعله لحكمة اقتضت ذلك، كما أن الذي يمتنع من فعله لحكمة تقتضي تنزيهه عنه. وعلى هذا، فكل ما فعله علمنا أن له فيه حكمة، وهذا يكفينا من حيث الجملة وإن لم نعرف التفصيل، وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته، وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا، وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا، فلا نكذب بما علمناه ما لم نعلمه. وكذلك نحن نعلم أنه حكيم فيما يفعله ويأمر به، وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته، فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها. ونحن نعلم أن من علم حذق أهل الحساب، والطب، والنحو، ولم يكن متصفا بصفاتهم التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل الحساب، والطب والنحو، لم يمكنه أن يقدح فيما قالوا، لعدم علمه بتوجيهه. والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب، والطب، والنحو، فاعتراضهم على حكمته أعظم جهلاً وتكلفًا للقول بلا علم من العامي المحض، إذا قدح في الحساب، والطب، والنحو بغير علم بشىء من ذلك. وهذا يتبين بالأصل الذي ذكرناه في الكمال، وهو قولنا: إن الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود يجب اتصافه به، وتنزيهه عما يناقضه، فيقال: خلق بعض الحيوان وفعله الذي يكون سببًا لعذابه، هل هو نقص مطلقًا أم يختلف؟ وأيضًا، فإذا كانت في خلق ذلك حكمة عظيمة لا تحصل إلا بذلك، فأيما أكمل تحصيل ذلك بتلك الحكمة العظيمة أو تفويتها؟ وأيضًا، فهل يمكن حصول الحكمة المطلوبة بدون حصول هذا؟ فهذه أمور إذا تدبرها الإنسان، علم أنه لا يمكنه أن يقول: خلق فعل الحيوان الذي يكون سببًا لتعذيبه نقص مطلقًا. والمثبتة للقدر قد تجيب بجواب آخر، لكن ينازعهم الجمهور فيه. فيقولون: كونه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد صفة كمال، بخلاف الذي يكون مأمورًا منهيًا، الذي يؤمر بشىء وينهى عن شىء. ويقولون: إنما قبح من غيره أن يفعل ما شاء لما يلحقه من الضرر، وهو ـ سبحانه ـ لا يجوز أن يلحقه ضرر. والجمهور يقولون: إذا قدرنا من يفعل ما يريد بلا حكمة محبوبة تعود إليه، ولا رحمة وإحسان يعود إلى غيره، كان الذي يفعل لحكمة ورحمة أكمل ممن يفعل لا لحكمة ولا لرحمة. ويقولون: إذا قدرنا مريدًا لا يميز بين مراده ومراد غيره، ومريدًا يميز بينهما، فيريد ما يصلح أن يراد وينبغي أن يراد، دون ما هو بالضد، كان هذا الثاني أكمل. ويقولون: المأمور المنهي الذي فوقه آمر ناهٍ هو ناقص بالنسبة إلى من ليس فوقه آمر ناه، لكن إذا كان هو الآمر لنفسه بما ينبغي أن يفعل، والمحرم عليها ما لا ينبغي أن يفعل، وآخر يفعل ما يريده بدون أمر ونهي من نفسه، فهذا الملتزم لأمره ونهيه ـ الواقعين على وجه الحكمة ـ أكمل من ذلك، وقد قال تعالى: وقالوا أيضًا: إذا قيل: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على وجه بيان قدرته، وأنه لا مانع له، ولا يقدر غيره أن يمنعه مراده، ولا أن يجعله مريدًا، كان هذا أكمل ممن له مانع يمنعه مراده، ومعين لا يكون مريدًا أو فاعلاً لما يريد إلا به. وأما إذا قيل: يفعل ما يريد باعتبار أنه لا يفعل على وجه مقتضى العلم والحكمة؛ بل هو متسفه فيما يفعله وآخر يفعل ما يريد لكنَّ إرادته مقرونة بالعلم والحكمة؛ كان هذا الثاني أكمل. وجماع الأمر في ذلك: أن كمال القدرة صفة كمال، وكون الإرادة نافذة لا تحتاج إلى معاون، ولا يعارضها مانع، وصف كمال. وأما كون الإرادة لا تميز بين مراد ومراد، بل جميع الأجناس عندها سواء، فهذا ليس بوصف كمال، بل الإرادة المميزة بين مراد ومراد ـ كما يقتضيه العلم والحكمة ـ هي الموصوفة بالكمال، فمن نَقَصَه في قدرته وخلقه ومشيئته فلم يقدره قدره، ومن نقصه من حكمته ورحمته فلم يقدره حق قدره، والكمال الذي يستحقه إثبات هذا وهذا.
|